مشاهدة النسخة كاملة : قيام بالواجب واعتراف بالجميل
حاتم شرف
01-02-2013, 01:41 PM
الأساتذة الأفاضل والأستاذات الفاضلات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :
لكل منا قدر ومكانة هو أعلم الناس بها ، وقد نتفاوت في تقدير أنفسنا وإنزالها موضعها الذي تستحقه ، إلا أننا - في اعتقادي - لانختلف في كوننا مربين امتهنوا أشرف مهنة ، وقد كان لأناس عظماء الأثر الواضح في وصولنا إلى ما وصلنا إليه ، عبر تعاطيهم معنا في مراحل تعليمنا المختلفة ، ونحن - معشر المربين - أولى الناس قياما بواجب الشكر لهم ، واعترافا بأفضالهم علينا ، فهلا أفردنا قسما في هذا المنتدى للاعتراف بالجميل لهم ، ولإدارة المنتدى اختيار الاسم اللائق لهذا القسم .
وهذا قد يتعدى أساتذتنا - في المدارس والمعاهد والكليات والجامعات - إلى كل من كان له فضل في تعليمنا بل كل من كان له أثر إيجابي - وإن قل - في تطوير مهاراتنا التدريسية أوالتربوية أوالإدارية أوالقيادية .
فمن حقهم علينا ذكرهم بالجميل ، وإظهار احترامنا لهم ، وتقدير جهودهم ، بل وحتى الدعاء لهم .
وقد يكون كافيا ذكر اسم الأستاذ أو الأستاذة واسم المدرسة والمرحلة التي كنا نعلم أو نتعلم فيها ، ولامانع من ذكر بعض المواقف التي لازلنا نذكرها من مجهوداتهم جزاهم الله خيرا .
أعلم يقينا أن لا أحد منا يخالف هذا الرأي ، فمتى نبدأ ؟
حاتم شرف
01-02-2013, 01:46 PM
سبق أن كتبت عن بعض أساتذتي في منتديات أخر ، وسأنقل إلى هذا القسم من المنتدى بعضا من ذلك لعله يشجع البعض على الكتابة ويشحذ همم البعض للمشاركة ، وإن سمحتم لي سأبدأ بأحد أكابر أساتذتي في المرحلة الابتدائية .
حاتم شرف
01-02-2013, 01:49 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد ،،،
فلعل المبادرة بالبدء تكون حافزا للكثيرين ، ثم مشجعا - بمشاركة الأعضاء - لإدارة المنتدى على إنشاء هذا القسم .
وهذه أول قطرة وفاء:
الأستاذ / جميل آشي (رحمه الله )
المدرسة / النموذجية الابتدائية بمكة المكرمة
معلم مادتي القرآن الكريم والتجويد بالمدرسة خلال دراستي فيها بين عامي 1389هـ و 1395هـ ، شيخ القراء في مكة المكرمة في عصره .
حافظ لكتاب الله ، مجود مرتل ، رخيم الصوت ،عذب القراءة .
شيخ جليل تعلوه المهابة وتنضح الحكمة من بين جوانحه .
مرب من الطراز الأول ، يجيد شحذ الهمم واستنهاض الطاقات ،عليم بفنون اللغة العربية ،قاص بارع يأسرك بلهجته المكية وصوته الذي يفتح أبواب القلوب الموصدة ، يبكي ويبكينا معه بغير صوت بل نلحظ دموعه لحظا عند تلاوته لآيات العذاب ، ونرى ابتسامته جلية عند تلاوته لآيات الرحمة والترغيب
كان - يرحمه الله - ينظر إلينا بعين الأب المشفق والوالد الرحيم ، لست أنسى تذكيره الدائم لنا بتقوى الله بين ثنايا الدروس وبالأخص عند تقصيرنا في حفظ الآيات ، ولست أنسى أسلوبه القصصي المشوق في سرد أسباب النزول كلما كان ذلك متاحا ، ولازلت أذكر طريقته المحببة في تعليمنا كيفية النطق لكلمات القرآن الكريم تطبيقا لقواعد التجويد وأحكامه - الإظهار ، الإقلاب ، الإدغام ،المد اللازم ، .... - فقد كان ( رحمه الله ) رغم كبر سنه يتجشم عناء تدريبنا فردا فردا ، كما أنه كان كثيرا مايشدد على تأمل الآيات الكريمة ومحاولة استنتاج الفوائد في المجالات المختلفة كالأحكام الفقهية وأصول النحو والصرف ، ولايفوتني هنا أن أشيد بما كان ( يرحمه الله ) يتحفنا به من حلوى عند تجويدنا للقراءة ، وبالمقابل كانت له طريقة لذيذة في العقاب - عند التقصير المتعمد - فقد كان يحمل معه دوما عصا صغيرة لايزيد طولها عن شبر واحد ( 25-30سم ) يخبئها في حقيبةصغيرة سوداء ثم يتصنع ضياع العصا بين قطع الحلوى المبعثرة في الحقيبة ، ويطلب من المقصر المسارعة إلى تصحيح الخطأ في القراءة والحفظ قبل أن يجد العصا .
لم نشاهد تلك العصا إلا مرات قليلة جدا لاتذكر مقارنة بعدد مرات حصولنا على الحلوى . بل إن ضربه لنا كان رقيقا ولينا جدا ، لم يكن القصد منه الإيلام ، بل كان القصد منه استدرار ضحك التلاميذ عبر الطريقة المضحكة في الضرب مما يؤدي إلى شيوع تقصير الطالب في مادة القرآن عند كل الطلاب والمعلمين بالمدرسة .
رحم الله شيخنا الجليل وأسكنه فسيح جناته ، أدين له بما علمني من علوم القرآن الكريم وبما غرسه في من حب التأمل والتدبر في آيات الذكر الحكيم ، وتشجيعه لي على تجويد القراءة وإتقانها بعد أن عرف بتفوقي في مواد أخرى مثل "الحساب والعلوم والتاريخ ، .... ".
وأخرى لايعرفها إلا القليلين ، كنت أعاني من بعض الصعوبة في نطق بعض الحروف ، لست بناس فضل أستاذي ( رحمه الله ) وجهده معي حيال ذلك ، فجزاه الله خير الجزاء ، وغمره بلطيف رحمته وسعة فضله وقديم إحسانه .
حاتم شرف
01-06-2013, 11:12 AM
الأستاذ العلامة / عمر باناعمه
أستاذ اللغة العربية في مدارس الفلاح بمكة المكرمة خلال الثمانينيات والتسعينيات الهجرية
كان أستاذي – رحمه الله – أبيضا طويل القامة ، خفيف الوزن ، حاد الملامح ، صغير الفم والعينين ، يمشي بتؤدة وسكينة ، يتحدث بهدوء ووقار ، ينصت بأدب وهيبة ، لاتكاد الابتسامة تفارق وجهه .
من نعم الله علي – الكثيرة جدا ولله الحمد – أنني درست على يدي هذا الجهبذ من المعلمين مذ كنت في الصف الثالث الابتدائي ولمدة خمس سنوات أو أكثر في الحرم المكي ، وقد كانت حلقته – يرحمه الله – على شمال الداخل إلى المسجد الحرام من باب الملك عبد العزيز وبعد انتهاء الدرج المؤدي إلى صحن المطاف .
لم نكن نتجاوز ستة أو سبعة طلاب من مدارس مختلفة نتحلق حول أستاذنا الذي كان يجلس مسندا ظهره إلى أحد الأعمدة المربعة مستقبلا الكعبة الشريفة ، وكان وقت حلقته يبدأ بعد صلاة العصر مباشرة وينتهي عند سماعنا للمؤذن يتأهب لرفع أذان المغرب - كم اشتقت إلى ذلك الصوت - ، يوزع أستاذنا هذا الوقت بمعرفته بين القرآن الكريم واللغة العربية ثم العلوم والحساب .
كان – يرحمه الله – يفتتح بآيات يتلوها علينا من ذاكرته ثم يسألنا عن اسم السورة ، وهل هي مكية أو مدنية ؟ ثم يطلب منا فتح المصاحف ويأمر أحدنا بقراءة بعض آيات السورة ثم يذكر - رحمه الله - بعضا مما يؤكد كونها مكية أو مدنية ، ففي السور المكية تكون معظم الآيات قصيرة وفيها لهجة ترهيب وإشارة إلى التوحيد وتهديد للكفار وللمشركين ، بينما السور المدنية تكون معظم آياتها طوالا وفيها أحكام فقهية ولهجة ترغيب وإشارة إلى ما أعده الله للمسلمين المتقين ، ولا تخلو تلك الحصة من بث بعض القيم الأخلاقية كالصدق والأمانة والوفاء وبر الوالدين ، مع الاستشهاد أحيانا ببعض القصص الاجتماعية والتي لم ننسها مذ سمعناها منه يرحمه الله .
أما عن اللغة العربية فقد كان يؤثرها بالقسم الأكبر من الوقت ، فقد كانت له طريقة جميلة فريدة من نوعها في تدريس اللغة العربية بكل فروعها ، وهاكم غيضا من فيض :
كان لأستاذنا الكبير كتاب صغير اسمه "المفرد العلم في رسم القلم" ، وهو كتاب من الحجم المتوسط يضم قطعا أدبية وقصصا اجتماعية وتاريخية لا يتجاوز طول معظمها عشرة أو عشرين سطرا .
ü فيبدأ – رحمه الله – بقراءة إحداها قراءة متصلة دون تعليق منه أو منا ، فيحرك عند الوصل ويسكن عند الوقف بينما ننصت له باهتمام ، ثم يعطي الكتاب للجالس عن يمينه ليعيد القراءة بينما يستمع الباقون ، ثم نتناول الكتاب بالترتيب للقراءة ، وهكذا حتى يكون الكل قد قرأ وسمع ، وكان يعجبه من بعضنا التدخل بأدب لتصويب قراءة الآخر رغم أن المستمع لايمسك كتابا في يده .
ü بعد انتهاء الجميع من القراءة جهرا نعيد الكتاب إليه فيبدأ في شرح القطعة أو القصة بلغة سلسة وأسلوب جذاب ينم عن أدب جم وذائقة عالية للبلاغة وفنون اللغة العربية ، ويتخلل ذلك بعض الأسئلة والإشارات حول محل الإعراب لبعض الكلمات والجمل .
ü ثم يطلب منا جميعا مناقشته فيما قرأناه ، فيساعدنا عبر تلك المناقشة في استنتاج الفوائد من القطعة الأدبية واستخراج العبر من القصة ، فيتحفنا خلال ذلك ببعض أبيات الشعر وفكاهاته الظريفة .
ü ثم يقوم بإملاء القطعة علينا – وهذا ما كنت بارعا فيه – ثم يأخذ في تصحيح ما كتبناه ، فيطلب أحدنا للاقتراب ومواجهته ليصوب الأخطاء الإملائية ، ولم يكن يكتفي بذلك بل يتجاوزه إلى توضيح قواعد الكتابة بخطي الرقعة والنسخ ، فيعيد كل منا كتابة السطر الذي أخطأ فيه عدة مرات بخطي الرقعة والنسخ .
ü ثم يطلب من كل منا إعراب القطعة كاملة ، ولامانع من التشاور مع بعضنا البعض ، ويكون تصحيحه للإعراب جماعيا ، فهو يوجه السؤال لأحدنا عن محل الكلمة من الإعراب ثم يطلب من الثاني بيان السبب ومن الثالث بيان العلامة وهكذا ....
ü ثم يطلب من كل منا إعادة صياغة القصة وكتابتها بلغته الخاصة وأسلوبه المتفرد .
ü وفي الختام يضع الأستاذ – رحمه الله – تقديره بالدرجات على مقياس من عشرة درجات في نهاية الصفحات وقد يعلق على الدرجة بعبارات تشجيعية أو توجيهية حول أدائي في كل نشاط مما مارسناه اليوم ( القراءة ، المناقشة والاستنتاج ، الكتابة والإملاء ، الإعراب ، التعبير ) ، وكان غريبا عندي مطالبته بتوقيع والدي يوميا على عباراته التوجيهية ، والأغرب منه سعادة والدي - حفظه الله - بهذا الإجراء وتأنيبه لي عندما لايجد في تعليقات الأستاذ كلمة ثناء على أدائي رغم أنها تفيد بأني ممتاز.
قد تعتقدون أن هذا كل شيء لكن أزيدكم بأنه – يرحمه الله – كان يكلفنا ببعض الواجبات مثل "اختيار إحدى اللوحات المنتشرة في طريق كل منا إلى بيته لقراءتها وكتابتها خمس مرات بخطي الرقعة والنسخ وإعرابها" ، وهنا تحضرني ذكرى اختياري للوحة على مكتبة كانت موجودة تحت عمائر الأشراف مقابل مستشفى أجياد كتب عليها (( مكتبة المعرفة )) وقد كتب تحتها عبارة طويلة مثل "لبيع الكتب والأقلام وما إلى ذلك ....." ، فقمت بحذف السطر الثاني واخترت أن أكتب وأعرب الجملة الرئيسة [ مكتبة المعرفة ] ، فكان ماكتبته هو عشرة كلمات فقط وأعربتها بالشكل التالي :
مكتبة :- مبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره وهو مضاف
المعرفة :- مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة على آخره
واعتقدت بأنني أبليت حسنا وسوف أفخر على زملائي غدا باختياري لعبارة قصيرة ونيل استحسان الأستاذ ، إلا أن أستاذي – رحمه الله – اكتشف ما قصدت إليه فقرر معاقبتي بطريقتين :
أولا / سألني عن الخبر في الجملة ( مكتبة المعرفة ) ، فلم أجد جوابا ، فأفادني – رحمه الله – بقوله إن الخبر هو الاسم (هنا) وهو محذوف جوازا ، فيكون تقدير الكلام ( مكتبة المعرفة هنا ) وهذا عند الكوفيين ، أما عند البصريين فيكون إعراب الاسم ( مكتبة ) خبرا لمبتدأ محذوف جوازا تقديره (هنا)حيث يكون تقدير الكلام ( هنا مكتبة المعرفة ) .
رحم الله أستاذي فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها عن مدرسة البصريين ومدرسة الكوفيين ، مما بين لي أن ما تعلمته من أصول النحو والصرف حتى ذلك الوقت لم يكن إلا قطرة من بحر ، فأشغفت حبا باللغة العربية وسعيت نحو التفوق في دراستها ، ولكنني لم أسمع عن هاتين المدرستين فيما بعد إلا عند دراستي لمقرر اللغة العربية 101 في المرحلة الجامعية .
ثانيا / طلب مني الأستاذ – يرحمه الله – إعادة إعراب كلمة المعرفة كما يلي [ المعرفة :- اسم مجرور بالإضافة وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره لأنه مفرد ] وكتابة ذلك عشر مرات ، بالإضافة إلى كتابة لوحة (( مكتبة المعرفة لبيع الكتب و .......... )) كاملة عشر مرات بخطي الرقعة والنسخ مع إعرابها كاملة .
لعلي لم أطل عليكم ، إلا أن لأستاذي الكثير من الأفضال علي ، كنت حريصا على رؤية نظرة الرضى في عينيه عندما أقرأ بوضوح وبلا أخطاء ، وأتسابق مع زملائي على استنتاج العبر من القصص ، وأفخر بكونه يربت على كتفي عندما لاأخطئ في كتابة ما أملاه علينا ، ولا أحب إلي من عبارات الاستحسان عندما يقرأ بصوته على الباقين ما كتبته من مخيلتي في التعبير .
لم يكن هذا شعوري لوحدي ، بل كلنا كنا متنافسين ومتفوقين بفضل الله ثم بتوفيقه عز وجل لهذا المعلم الفاضل معنا ، رحمه الله رحمة الأبرار الأخيار ، كان يغضب أشد الغضب ممن يتأخر عن صلاة العصر بجواره في الحرم ، لم يغب يوما خلال كل تلك السنوات – حتى عند مرضه – ، بل لم نسبقه يوما في الحضور ، ولازلت أذكر محاولتي لسبقه حيث كان منزلنا لايبعد أكثر من أربع دقائق عن الحرم وفي مواجهة باب الملك عبد العزيز، فنزلت من البيت قبل أذان العصر مختالا لظني بأني سأسبقه ، إلا أنه كان هناك قبلي .
علمني – يرحمه الله – أن أحب زملائي وأحترمهم ، أن أسمع أكثر مما أتكلم ، أن القراءة مفتاح المعرفة ، أن الكتابة فن جميل ، أن من تعود طرق الأبواب توشك أن تفتح له ، أن أحب اللغة العربية وأتذوق فنونها ، أن أميز الغث من السمين في ما أقرأه ، أن أتأمل في النصوص وأسبر أغوارها ، أن أمشي الهوينى في المسجد الحرام ولا أرفع صوتي ، أن لاشيء مقدم على الصلاة فقد كان كثيرا ما يردد أمامنا "بعد الصلاة تنقضي الحاجات" .
من المصادفات الغريبة أنني قمت فيما بعد – عام 1407 هـ – بتدريس أحد ابني أستاذي ، وكان ذلك عند دراستي لمادة "التربية العملية" في السنة الأخيرة من دراستي الجامعية حيث تدربت في ثانوية الملك فهد بمكة المكرمة ، عرفت ابنه – سبحان الله العظيم – بمجرد رؤيته ، حيث الصفات ذاتها والملامح ذاتها والأدب ذاته ، فاستشعرت المسؤلية ، هل سأكون له كما كان أبوه لي ؟ معلما ؟ ومربيا ؟ ووالدا حنونا ؟ وناصحا شفيقا ؟ ؟ ؟ ، لم يكن ذلك سهلا ، أدركت وقتها حجم الجهد الذي كان يبذله أستاذي ، وعظم المسؤلية التي اضطلع بها ، وكبر معاناته معنا في سبيل تعليمنا .
اللهم اغفر لأستاذي وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله واجعل قبره روضة من رياض الجنة وأصلح له ذريته وبارك له فيها ، واجزه عني خير الجزاء ، فلم يزل معلما لي حتى بعد أن أصبحت أنا معلما .
Powered by vBulletin® Version 4.1.11 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir