رياض البطشان
11-22-2009, 05:47 PM
البنائية كمدخل للمنظومية
أ.د. حسنين الكامل
أستاذ علم النفس التربوى وعميد كلية التربية بسوهاج
جامعة جنوب الوادى
مقدمـة:
المعرفةknowledge طبيعتها وكيف يتأتي لنا أن نعرف، هي اعتبارات أساسية عند أصحاب المدرسة البنائية. والبنائية Constructivism كنظريّة للمعرفة knowledge ذات جذور في الفلسفة، وعلم النفس وعلم التّحكّم الأوتوماتيكيّ" Cybernetics . ومن المنظور البنائيّ، تبني المعرفة بواسطة الفرد من خلال تفاعلاته مع بيئته.
وكيفية إدراك المعرفة وعمليات التعرف على المعرفة هو الأساس الذي تقوم عليه الممارسة التعليميّة. فلو تصورنا أنّ المتعلّم يستقبل سلبيا المعلومات فإن الأولوية في التعليم ستتركز على إرسال المعرفة. ومن ناحية أخرى لو كان المتعلّم يبني المعرفة في محاولاته لفهم عالمه، عندئذ سيكون التعلم قائما على الأرجح على تطوّر المعنى والفهم. إلا أن ما يحدث عادة - كما يرى أصحاب المدرسة البنائية - أن المعرفة لا تكتشف وأنّ المعلمين يقدمون أفكارا لا تطابق الحقائق الموضوعيّة.
كما إن علاقة علم المعرفة Epistemology بالتعلّم علاقة قديمة تعود إلى آلاف السنين. فقد اعتمدت طريقة الفيلسوف سقراط أساسا على توجيه طلابه عبر سلاسل الأسئلة التي تنمي التفكير الناقد لديهمّ. وهناك مواقع على شبكة الانترنت تدور فيها مناقشات ومحاضرات مثل التي كانت تروى بواسطة أرسطو. فاليوم، يقتبس أسلوب سقراط على نحو واسع، بل إن مدخله الاستجوابي يذكر على انه تقنية تعليمية فاعلة، ولو أنه بيننا اليوم، فقد يظهر اهتماما بالبنائية بما يتفق مع فلسفته الخاصّة.
إن الأساس السيكولوجي للمنظومية نجده في أدبيات علم النفس المعرفي، فنجد أن أوزوبيل ذكر أن" التعلم ذو المعني " يحدث نتيجة تفاعل المعرفة الجديدة مع المعرفة الموجودة لدى الفرد. كما نجد أن جان بياجيه عرف التعلم بأنه ربط المعلومات الجديدة بما لدى الفرد من معرفة سابقة، وأن دور المعلم طبقا للنظرية البنائية هو التيسير والمساعدة في بناء المعرفة.
وإذا كان التعليم يهتم بتوصيل الأفكار للمتعلمين فإنه يجب أن يركز على أفضل الوسائل والطرق لاستخدام المعلومات. ولا تأتي الطريقة الأكثر فعالية في إحداث تغيير في الأفكار من الخارج ولكن من الداخل بتنظيم المعلومات المتاحة بالاستبصار. والتفكير المنظومي أداة من أدوات الاستبصار يرتبط ارتباطا وثيقا بالإبداع. ولكن الإبداع يصف النتائج، أما التفكير المنظومي فيصف العمليات نفسها. ولقد ركز التعليم على التفكير الخطي المتسلسل الذي كان يعتقد انه المصدر الوحيد التقليدي لمعالجة المعلومات، وأهمل التفكير المنظومي في التعليم.
وتستخدم المعلومات في التفكير المنظومي بطريق استثارية وبنوع من التحدي للمفاهيم القديمة، وينطوي تحت هذا المظهر الغرض الرئيسي من التفكير المنظومي وهو إعادة بناء المعلومات المتاحة، وبمعني آخر إعادة صياغة الاستبصار. ولن نصل إلى المراد بواسطة التفكير الخطي أو التقليدى أو العمودي، والذي يعمل على توصيل الأفكار القديمة ولا يعمل على إعادة بنائها، حيث يحتاج نظام معالجة المعلومات إلى التفكير المنظومي من أجل التوصل إلى إعادة الصياغة والبناء بالاستبصار.
بالرّغم من أن هناك من يجادل بأنّ البنائية لا تعطي نموذجا للتطبيق، حيث إن تطبيق النظريّة على الممارسة هو التحدي الحقيقي. وهذا ليس فقط في ميدان التربية بل في أيّ ميدان آخر. ويعمل الكثير من الباحثين والتربويين والمؤلّفين بجد ونشاط في استخدام مبادئ البنائية لتصميم وتنفيّذ مواقف تعلّم جديدة مستخدمين في ذلك تكنولوجيا الوسائط التعليمية والتي تعتبر بحق وسطا ملائما لاستخدام مبادئ البنائية في التعلّم.
علم المعرفة البنائية Constructivist Epistemology:
كيف تأتي لنا أن نعرف ما نعرفه؟ ما المعرفة Knowledge؟ ما الحقيقة truth ؟ أو reality . هذه الأسئلة مهمّة ليست فقط لعلماء علم المعرفة أو الفلاسفة الذين يدرسون المعرفة، لكن كذلك للذين يهتمون بالعلوم واللغة، والقيم، وعلم النفس التعليميّ، وحتّى لمبرمجي الكمبيوتر الذين يطوّرون أنظمة الذكاء الاصطناعيّ. هل نشاهد معرفة مطلقة ومنفصلة عن الفرد ومطابقة للحقيقة ؟ أم ما نشاهده من معرفة هو جزء من الفرد ينسب إلى خبراته وتجاربه مع البيئة ؟
في تاريخ علم المعرفة نجد النزعة إلى الحركة من منظور سلبي وساكن للمعرفة نحو اتجاه أكثر إيجابية وتأقلما، فقد شدّدت النظريّات المبكّرة على المعرفة ككينونة، ووعي للأشياء مستقل عن أي موضوع. واستنادا إلى هذه النظرة الموضوعية، نجد أن الموضوعات تمتلك معني جوهريا، فالمعرفة انعكاس للتماثل مع الحقيقة. وطبقا لذلك يجب على المعرفة أن تمثل عالما حقيقيّا، إنه التفكير في وجود الشيء مستقلا ومنفصلا عن الفرد. وهذه المعرفة تعتبر فقط صادقة إذا عكست العالم المستقل.
ويرى جوناسن (1991) Jonassen أن المعرفة مستقرّة لأنّ خصائص الأشياء الأساسيّة هي القابلية للمعرفة knowable ونسبية عدم التغيير unchanging. والافتراض الميتافيزيقيّ المهمّ للموضوعية هو أنّ العالم حقيقيّ، وإنّه بنائي (تكويني )، ويمكن لتلك التكوينات أن تتحول إلى نماذج (تنمذج ) can be modeled للمتعلّم. وفكرة الموضوعيّة تتجلى في أنّ هدف العقل هو " مرآة " لتلك الحقيقة وتكوينها خلال عمليات التفكير التي تكون قابلة للتحليل والتبسيط decomposable. كما أن المعنى الذي يحدث بواسطة عمليّات التفكير خارجي عن الفرد، ويحدّد بواسطة بناء العالم الحقيقي.
على الجانب الآخر ترى وجهة النظر البنائية أنّ المعرفة والحقيقة ليست لهما قيم موضوعيّة أو مطلقة. على الأقلّ، ليس لدينا طريقة للتعرف على هذه الحقيقة. يشير Von Glasersfeld (1995) إلى مفهوم الحقيقة على أنها "تتألف من شبكة الحاجات والعلاقات التي نعتمد عليها في حياتنا والأشياء التي نؤمن بها، والتي يعتمد عليها الآخرون كذلك ".
والفرد يفسّر وينشئ حقيقة قائمة على تجاربه وتفاعلاته مع بيئته. وبدلا من أن يفكّر في الحقيقة في عبارات تتماثل مع الواقع يركّز عوضا عن ذلك على مفهوم القابلية للتطوير. فبالنسبة للبنائية، والمفاهيم، والنماذج، والنظريّات، الخ... فإنها قابلة للتطور أو البقاء إذا ما برهنت على ملاءمتها للسياق الذي نشأت من أجله .
ويمثل كل من المتصل المعرفي Epistemological Continuum، البنائية المعرفية، والموضوعية المعرفية الصورة العكسية المقابلة. لقد برزت أنواع متعدّدة للبنائية. ونستطيع أن نميّز بين البنائية الراديكالية، الاجتماعية ‘ الفيزيائية، التطورية، وما بعد الحداثة postmodern ومعالجة المعلومات البنائية والأنظمة السبرانية ybernetic systems . كما يشير Ernest (1995) إلى وجود أنواع مختلفة من البنائية. وقد تأثر تفكير Ernst von Glasersfeld بعمق بنظريّات Piaget، وتضامن مع البنائية الراديكالية لأنهاّ تتعارض مع العرف وطوّر نظريّة للمعرفة، حيث إن المعرفة لا تعكس الحقيقة الموضوعية الوجودية ولكن هي ضمنيا تنظيم عالم تم تكوينه بواسطة خبراتنا. عرف Von Glasersfeld البنائية الراديكالية استنادا إلى تصوّرات المعرفة على أنها كائن نشط يستقبل إما من خلال الحواس أو عبر الاتّصال. إنّها تتكون بنشاط بواسطة الشخص المنظم. وعملية المعرفة cognition تكيفية وتسمح للفرد أن ينظّم عالم الخبرات، ليس أن يكتشف حقيقة موضوعيّة (von Glasersfeld، 1989).
وفى مقابل موقف von Glasersfeld للبنائية الراديكالية ظهرت البنائية الاجتماعيةّ لعالم النفس فايجوتسكى كأكثر الأشكال قبولا للفلسفة، حيث يرى Heylighen (1993) البنائية الاجتماعية بأنها الاتفاق الجماعي في الرأي مع اختلاف الأفراد كمحك للحكم على المعرفة 'كحقيقة' أو واقع. والتعليم عند فايجوتسكى عملية موصولة اجتماعياً حيث يتم بناؤها أو تنميتها بمعاونة أو دعم راشد أو قرين أكثر نضجا.ً ومعرفة ودور الراشد أو القرين هو هيكلة أنشطة التعلم التى تتجاوز مستوى الطفل ولكن تكون فى متناوله. والمستوى المدعوم يصبح بعد ذلك نقطة الانطلاق الجديدة التى تعد الطفل للتحرك للمستوى التالى. وأطلق فايجوتسكى مصطلح "منطقة النمو الوشيك (Zone of Proximal Development-ZPD) على المساحة التى تقع بين ما يمكن أن يقوم به الطفل بنفسه وما يمكنه أن يقوم به من خلال تعاونه مع شخص أكثر معرفة. هذه المنطقة الافتراضية تصبح المنطقة التى يحدث فيها النمو المعرفى ويتم التعلم ( وليم عبيد، 2002).
ويبدو أن علم المعرفة البنائية صعب التعريف، حيث يعتمد على الباحث الذي تقرأ له. فقد تحصل على تأويلات مختلفة إلى حد ما لهذا المفهوم. ومع ذلك، فإن العديد من الكتّاب، والتربويين والباحثين يظهرون توافقا حول كيف أن المعرفة البنائية تؤثر على الممارسات التربوية والتعلّم. وبالنسبة للكثيرين، تقدم البنائية وعودا بعلاج تفاقم نظام المدرسة وتعرض بديلا مقنعا، ومتماسكا وقويّا إلى النموذج القائم. هل تستطيع البنائية بفاعلية أن تترجم إلى نظريّة تعلّم وذلك من علم المعرفة، ومن نظريّة تعلّم إلى الممارسة؟ هذا السؤال ينبغي أن يوضع في الاعتبار. وسوف نناقش فيما يلي ما تعنيه البنائية بالنسبة للتعلّم .
نظرية التعلم البنائية Constructivism Learning Theory:
على الرغم من أنه لا يوجد تقريبا اتفاق على نظرية بنائية للتعلم، إلا أن النظرية تزعم بوجه عام بأنه يوجد كم هائل من الحقائق في ذهن العارف. ويعي الفرد الحقيقة أو على الأقل يفسرها في ضوء خبراته. وتهتم البنائية بكيفية بناء المعرفة من خلال خبراتنا، وأبنيتنا العقلية، ومعتقداتنا المستخدمة في تفسير الأشياء والأحداث؛ فيتم تكوين عالمنا الشخصي عن طريق الذهن، ومن ثم فإنه في إطار النظرية البنائية لا توجد حقيقة موضوعية واحدة، فهي ترى أن العقل أداة ضرورية في تفسير الأحداث والأشياء، وأن هذه التفسيرات تشمل أساس المعرفة الشخصية والفردية. فالذهن ينتقي المدخلات من العالم الخارجي حتى يتمكن من تقديم تفسير لها، كما أننا جميعنا نفكر في العالم الخارجي بطرق مختلفة نوعا ما، ومن واقع خبراتنا بهذا العالم, ومعتقداتنا من تلك الخبرات (Jonassen, 1991) .
ويذكرErnest (1995) أنه باستعراض سبعة نماذج للبنائية، يتضح أنها كلها صور متباينة للبنائية الراديكالية. والنتيجة المستخلصة هي عبارة عن الحاجة إلى التوافق بين التكوين الفردي والتفاعل الاجتماعي. هل تتكون المعرفة من موقف اجتماعي أم أنه ينظر إليها على أنها إنشاء فردي ؟. هذا الموقف يؤثر على الطريقة التي يتم بها تحول التعلم إلى مفاهيم. فمن منظور البنائية الراديكالية، كيف يمكن لنظريّتهم أن تشمل كلاً من النشاط الجماعيّ والخبرة الفرديّة لتضع في الاعتبار أهمية التفاعل الاجتماعي الصفي الذي يكون عادة جزءا من العمليّة التعليميّة الكاملة؟. تشكّل مثل هذه الأسئلة الأساس للتعقيدات الناشئة في عملية ترجمة تنوع وجهات النظر إلى مجموعة عامة من المبادئ التي يمكن أن تتحول إلى عمليات قابلة للاستخدام. وبسبب التباين في وجهات النظر الخاصة بنظرية بنائية التعلم يقترح Ernest أن نقطة البدء المناسبة لفهم المنظور البنائي في التعليم والتعلم هي أن نضع في الاعتبار ما هو ليس بنائياً.
يعبر عن البنائية عادة عن طريق مقارنتها بالنموذج السلوكي للتعلم. يهتم علم النفس السلوكي بدراسة التغييرات في السلوك الظاهر مقابل التغييرات في المواقف العقلية. ويفهم التعلّم على أنه عمليّة تغيير أو جعل السلوك الملاحظ شرطيا نتيجة للتعزيز الانتقائيّ لاستجابة الفرد للمثيرات التي تقع في البيئة. يرى العقل كوعاء فارغ ينبغي أن يملأ أو كمرآة تعكس الحقيقة. وتركّز السلوكيّة على جهود الطلاّب لجمّع المعرفة من العالم الطبيعي وعلى جهود المدرّسين لنقله. ولذلك تعتمد على عملية إرسال بواسطة المدرس الّذي يكون سلبيا إلى حد كبير، ويدور حوله التعلم كما يتحكم فيه. وفي بعض السياقات، يستعمل مصطلح السلوكيّة behaviorism كمرادف للموضوعية Objectivism بسبب اعتماده علم المعرفة الموضوعية.
ويصف Jonassen (1991) فرضيات المدخل الموضوعي في التعلم كما يلي:
يعتقد الموضوعيون في وجود معرفة حقيقية عن العالم. كمتعلّم، فإن الهدف هو الحصول على هذه المعرفة؛ وكمربي، فإن الهدف هو نقل هذه المعرفة. وأبعد من ذلك تفترض الموضوعيّة أنّ المتعلّم يحصل على نفس الفهم مما نقل إليه. ويتكون التعلّم لذلك من استيعاب تلك الحقيقة الموضوعيّة. ودور التربية هو مساعدة الطلاّب على تعلم أشياء عن العالم الحقيقيّ. وهدف المصمّمين أو المدرّسين هو تفسير الوقائع لهم. ويتم إخبار المتعلّمين عن العالم وينتظر منهم أن يكرّروا محتواه ومكوناته في تفكيرهم . وأنتج هذا النموذج الموضوعي بطريقة ما التعليم والتعلم المقولب stereotyped والّذي انتقد على نحو واسع وغالبا ما يستدعى بهدف الإصلاح التعليمي.
تصف Susan Hanley (1994) في مناقشتها للبنائية ّ، منظورها عن نموذج الموضوعية كما يلي :
تدار الصفوف عادة بواسطة " حديث المعلم " ويعتمد بشدة على الكتب المدرسية لبناء المقرر. هناك فكرة أنّ هناك عالم المعرفة الثابت وأنّ الطالب يجب عليه أن يعرف. تقسّم المعلومات إلى أجزاء وتبني في مفهوم شامل. المدرّسون عبارة عن خطوط أنابيب ويسعون إلى نقل أفكارهم ومعانيهم إلى الطالب السلبي . هناك مساحات ضيقة لأسئلة المبادرة وللتفكير المستقل أو التفاعل بين الطلاّب. هدف المتعلّم هو استرجاع الشرح المقبول من المدرّس.
بينما تؤكد السلوكيّة على السلوك الخارجيّ الملاحظ وتتجنّب الارتكاز على المعني، والتمثيل والتفكير، تأخذ البنائية على عاتقها المدخل المعرفي cognitive. هذا الاختلاف له استخدامات عميقةّ لجميع أوجه نظرية التعلم. الطريقة التي تستوعب وتكتسب بها المعرفة، أنواع المعرفة، المهارات والأنشطة، دور المتعلّم والمعلم، كيف توضع الأهداف، كلّ من هذه العوامل تتجلى على نحو مخالف من المنظور البنائي. ومن خلال البنائية نفسها يوضح المؤلّفون والباحثون والمنظرون وجهات نظر على نحو مخالف بواسطة عناصر مختلفة.
ومع ذلك هناك اتفاق على عدد كبير من المداخل. على سبيل المثال، على دور المدرّس والمتعلّم. في تصوّر( 1995b) von Glasersfeld عن مفهوم البنائية الأصولية للتعلم، يلعب المدرّسون دور "الداية " في ولادة الفهم" مقابل "آلية نقل المعرفة". ليس دورهم توزيع المعرفة ولكن تزويد الطلاّب بالفرص والحوافز لبناء المعرفة . ويعرّف Mayer (1996)المدرّسين على أنهم "مرشدون"، والمتعلّمين على أنهم "صنّاع المعني" sense makers . وطبقا لوجهة نظر Gergen (1995) يعتبر المعلمون منسقون،وميسرون facilitators، ومستشارون، ومدربون. ويمكن للمعلم داخل قاعة الدرس البنائية أن يلعب دورا مفيدا في تحويل النظرية إلى ممارسات:
يتكون دور السلطة من عنصرين مهمّين. الأوّل تقديم أفكار جديدة أو أدوات ثقافيّة عند الضرورة وأن يزوّد الدعم والإرشاد للطلاّب لاكتشاف معني ذلك بأنفسهم. العنصر الثاني هو الإصغاء وتشخيّص الطرق التي تفسّر بها الأنشطة التعليميّة. والتدريس من هذا المنظور هو أيضا عمليّة تعلّم للمدرّس (Driver et al, (1994 .
بينما لكل من وجهات النظر الأصولية والاجتماعيّة للبنائية التأكيدات الخاصّة بها يشتقّ Ernest (1995) مجموعة الدعامات النظريّة العامة لكليهما:
المعرفة هي ككل ممشكلة ( في صورة مشكلات) Problematized، وليست مجرد المعرفة الموضوعية للمتعلم، بما في ذلك المعرفة الرياضيّة وعلم المنطق.
الحاجة إلي مداخل للتدريس لزيادة الوعي والتجاوب حيث إنه لا يوجد طريق ملكي للوصول للحقيقة أو قريبا منها.
تركيز الاهتمام ليس فقط على العمليات المعرفية للمتعلم، ولكن العمليات المعرفية والمعتقدات والتصورات المعرفية الخاصة بالمعلم.
تركيز الاهتمام على المعلم وتربية المعلم، ليس فقط معرفة المعلم للموضوعات ومهارات التشخيص، ولكن على كل ما يخص المعلم من معتقدات وتصوّرات، ونظريّات شخصيّة عن الموضوعات والتدريس والتعلم.
وبالرّغم من قدرتنا على التعرف تجريبيا على معرفة الآخرين بواسطة تفسير لغتهم وأعمالهم من خلال تكوينات مفاهيمنا الخاصة، إلا أن الآخرين لهم حقائقهم المستقلة عنا. وحقيقة الأمر إنّها حقائق آخرين مع حقائقنا الخاصّة التي نجاهد من أجل فهمها، ولكننا لا نستطيع أن نأخذ أيّ من هذه الحقائق كشيء ثابت. كما أن الوعي بالبناء الاجتماعيّ للمعرفة يقترح تأكيدات تربوية على المناقشة، التعاون، المفاوضة، والمعاني المشتركة .
ويؤكد Von Glasersfeld (1995) على أن التعلم من المنظور البنائي ليس ظاهرة مثير – استجابة . إن التعلم يحتاج إلى التنظيم الذاتي وبناء المفاهيم من خلال التفكير والتجريد . ويضيف Fosnot ( 1996) " بدلا من السلوك أو المهارات كهدف للتعليم، فإن نمو المفهوم والفهم العميق هو الجوهر ". وبالنسبة للمربين فإن التحدي هو القدرة على بناء نموذج نظري لعوالم المفاهيم الخاصة بالطلاب حيث هذه العوالم يمكن أن تكون مختلفة للغاية عما قصده المربي (von Glasersfeld، 1996).
وطبقا لهذا التصور، يؤكد التعلّم على العمليات وليس على النواتج. كيف يصل الفرد إلى إجابة خاصة، وليس استرجاعاً أي " حلاً حقيقياً موضوعياً " . التعلّم هو عمليّة بناء تمثيلات ذات معنى، وإحداث معني لعالم خبرات الفرد. في هذه العمليّة، ينظر إلى أخطاء الطلاّب برؤية إيجابية وكوسائل للتمكن من البصيرة في كيفية تنظيم عالم خبراتهم. هذا المنظور ثابت مع اتجاه البنائية لضمان مضاعفة الحقائق والتمثيلات والمنظورات.
ومفهوم التعددية Multiplisity هو مفهوم بالغ الأهمية للبنائية. ويعرف، ليس فقط كمنظور معرفي ونظري ولكن كذلك كطرق متعددة للتعبير عن النظرية. ولهذا المفهوم تطبيقات مهمة للتعليم والتعلّم فينظر إلى الرياضيّات والعلوم كأنظمة مع النماذج التي تصف كيف يكون العالم غير ما هو عليه. وتشتقّ هذه النماذج صدقها ليس من دقّتها في وصف العالم، ولكن من دقّة أي تنبّؤات ربّما قد اعتمدت عليها (Hanley، 1994).
وطور الباحثون والمنظرون أنواعاً متباينة من البنائية أو طوّروا النظريّة في اتجاهات مختلفة. ومع ذلك فهناك العديد من الموضوعات العامة في أدبيات البنائية التي تسمح باشتقاق المبادئ، والنماذج التعليميّة والخواصّ العامّة.
أ.د. حسنين الكامل
أستاذ علم النفس التربوى وعميد كلية التربية بسوهاج
جامعة جنوب الوادى
مقدمـة:
المعرفةknowledge طبيعتها وكيف يتأتي لنا أن نعرف، هي اعتبارات أساسية عند أصحاب المدرسة البنائية. والبنائية Constructivism كنظريّة للمعرفة knowledge ذات جذور في الفلسفة، وعلم النفس وعلم التّحكّم الأوتوماتيكيّ" Cybernetics . ومن المنظور البنائيّ، تبني المعرفة بواسطة الفرد من خلال تفاعلاته مع بيئته.
وكيفية إدراك المعرفة وعمليات التعرف على المعرفة هو الأساس الذي تقوم عليه الممارسة التعليميّة. فلو تصورنا أنّ المتعلّم يستقبل سلبيا المعلومات فإن الأولوية في التعليم ستتركز على إرسال المعرفة. ومن ناحية أخرى لو كان المتعلّم يبني المعرفة في محاولاته لفهم عالمه، عندئذ سيكون التعلم قائما على الأرجح على تطوّر المعنى والفهم. إلا أن ما يحدث عادة - كما يرى أصحاب المدرسة البنائية - أن المعرفة لا تكتشف وأنّ المعلمين يقدمون أفكارا لا تطابق الحقائق الموضوعيّة.
كما إن علاقة علم المعرفة Epistemology بالتعلّم علاقة قديمة تعود إلى آلاف السنين. فقد اعتمدت طريقة الفيلسوف سقراط أساسا على توجيه طلابه عبر سلاسل الأسئلة التي تنمي التفكير الناقد لديهمّ. وهناك مواقع على شبكة الانترنت تدور فيها مناقشات ومحاضرات مثل التي كانت تروى بواسطة أرسطو. فاليوم، يقتبس أسلوب سقراط على نحو واسع، بل إن مدخله الاستجوابي يذكر على انه تقنية تعليمية فاعلة، ولو أنه بيننا اليوم، فقد يظهر اهتماما بالبنائية بما يتفق مع فلسفته الخاصّة.
إن الأساس السيكولوجي للمنظومية نجده في أدبيات علم النفس المعرفي، فنجد أن أوزوبيل ذكر أن" التعلم ذو المعني " يحدث نتيجة تفاعل المعرفة الجديدة مع المعرفة الموجودة لدى الفرد. كما نجد أن جان بياجيه عرف التعلم بأنه ربط المعلومات الجديدة بما لدى الفرد من معرفة سابقة، وأن دور المعلم طبقا للنظرية البنائية هو التيسير والمساعدة في بناء المعرفة.
وإذا كان التعليم يهتم بتوصيل الأفكار للمتعلمين فإنه يجب أن يركز على أفضل الوسائل والطرق لاستخدام المعلومات. ولا تأتي الطريقة الأكثر فعالية في إحداث تغيير في الأفكار من الخارج ولكن من الداخل بتنظيم المعلومات المتاحة بالاستبصار. والتفكير المنظومي أداة من أدوات الاستبصار يرتبط ارتباطا وثيقا بالإبداع. ولكن الإبداع يصف النتائج، أما التفكير المنظومي فيصف العمليات نفسها. ولقد ركز التعليم على التفكير الخطي المتسلسل الذي كان يعتقد انه المصدر الوحيد التقليدي لمعالجة المعلومات، وأهمل التفكير المنظومي في التعليم.
وتستخدم المعلومات في التفكير المنظومي بطريق استثارية وبنوع من التحدي للمفاهيم القديمة، وينطوي تحت هذا المظهر الغرض الرئيسي من التفكير المنظومي وهو إعادة بناء المعلومات المتاحة، وبمعني آخر إعادة صياغة الاستبصار. ولن نصل إلى المراد بواسطة التفكير الخطي أو التقليدى أو العمودي، والذي يعمل على توصيل الأفكار القديمة ولا يعمل على إعادة بنائها، حيث يحتاج نظام معالجة المعلومات إلى التفكير المنظومي من أجل التوصل إلى إعادة الصياغة والبناء بالاستبصار.
بالرّغم من أن هناك من يجادل بأنّ البنائية لا تعطي نموذجا للتطبيق، حيث إن تطبيق النظريّة على الممارسة هو التحدي الحقيقي. وهذا ليس فقط في ميدان التربية بل في أيّ ميدان آخر. ويعمل الكثير من الباحثين والتربويين والمؤلّفين بجد ونشاط في استخدام مبادئ البنائية لتصميم وتنفيّذ مواقف تعلّم جديدة مستخدمين في ذلك تكنولوجيا الوسائط التعليمية والتي تعتبر بحق وسطا ملائما لاستخدام مبادئ البنائية في التعلّم.
علم المعرفة البنائية Constructivist Epistemology:
كيف تأتي لنا أن نعرف ما نعرفه؟ ما المعرفة Knowledge؟ ما الحقيقة truth ؟ أو reality . هذه الأسئلة مهمّة ليست فقط لعلماء علم المعرفة أو الفلاسفة الذين يدرسون المعرفة، لكن كذلك للذين يهتمون بالعلوم واللغة، والقيم، وعلم النفس التعليميّ، وحتّى لمبرمجي الكمبيوتر الذين يطوّرون أنظمة الذكاء الاصطناعيّ. هل نشاهد معرفة مطلقة ومنفصلة عن الفرد ومطابقة للحقيقة ؟ أم ما نشاهده من معرفة هو جزء من الفرد ينسب إلى خبراته وتجاربه مع البيئة ؟
في تاريخ علم المعرفة نجد النزعة إلى الحركة من منظور سلبي وساكن للمعرفة نحو اتجاه أكثر إيجابية وتأقلما، فقد شدّدت النظريّات المبكّرة على المعرفة ككينونة، ووعي للأشياء مستقل عن أي موضوع. واستنادا إلى هذه النظرة الموضوعية، نجد أن الموضوعات تمتلك معني جوهريا، فالمعرفة انعكاس للتماثل مع الحقيقة. وطبقا لذلك يجب على المعرفة أن تمثل عالما حقيقيّا، إنه التفكير في وجود الشيء مستقلا ومنفصلا عن الفرد. وهذه المعرفة تعتبر فقط صادقة إذا عكست العالم المستقل.
ويرى جوناسن (1991) Jonassen أن المعرفة مستقرّة لأنّ خصائص الأشياء الأساسيّة هي القابلية للمعرفة knowable ونسبية عدم التغيير unchanging. والافتراض الميتافيزيقيّ المهمّ للموضوعية هو أنّ العالم حقيقيّ، وإنّه بنائي (تكويني )، ويمكن لتلك التكوينات أن تتحول إلى نماذج (تنمذج ) can be modeled للمتعلّم. وفكرة الموضوعيّة تتجلى في أنّ هدف العقل هو " مرآة " لتلك الحقيقة وتكوينها خلال عمليات التفكير التي تكون قابلة للتحليل والتبسيط decomposable. كما أن المعنى الذي يحدث بواسطة عمليّات التفكير خارجي عن الفرد، ويحدّد بواسطة بناء العالم الحقيقي.
على الجانب الآخر ترى وجهة النظر البنائية أنّ المعرفة والحقيقة ليست لهما قيم موضوعيّة أو مطلقة. على الأقلّ، ليس لدينا طريقة للتعرف على هذه الحقيقة. يشير Von Glasersfeld (1995) إلى مفهوم الحقيقة على أنها "تتألف من شبكة الحاجات والعلاقات التي نعتمد عليها في حياتنا والأشياء التي نؤمن بها، والتي يعتمد عليها الآخرون كذلك ".
والفرد يفسّر وينشئ حقيقة قائمة على تجاربه وتفاعلاته مع بيئته. وبدلا من أن يفكّر في الحقيقة في عبارات تتماثل مع الواقع يركّز عوضا عن ذلك على مفهوم القابلية للتطوير. فبالنسبة للبنائية، والمفاهيم، والنماذج، والنظريّات، الخ... فإنها قابلة للتطور أو البقاء إذا ما برهنت على ملاءمتها للسياق الذي نشأت من أجله .
ويمثل كل من المتصل المعرفي Epistemological Continuum، البنائية المعرفية، والموضوعية المعرفية الصورة العكسية المقابلة. لقد برزت أنواع متعدّدة للبنائية. ونستطيع أن نميّز بين البنائية الراديكالية، الاجتماعية ‘ الفيزيائية، التطورية، وما بعد الحداثة postmodern ومعالجة المعلومات البنائية والأنظمة السبرانية ybernetic systems . كما يشير Ernest (1995) إلى وجود أنواع مختلفة من البنائية. وقد تأثر تفكير Ernst von Glasersfeld بعمق بنظريّات Piaget، وتضامن مع البنائية الراديكالية لأنهاّ تتعارض مع العرف وطوّر نظريّة للمعرفة، حيث إن المعرفة لا تعكس الحقيقة الموضوعية الوجودية ولكن هي ضمنيا تنظيم عالم تم تكوينه بواسطة خبراتنا. عرف Von Glasersfeld البنائية الراديكالية استنادا إلى تصوّرات المعرفة على أنها كائن نشط يستقبل إما من خلال الحواس أو عبر الاتّصال. إنّها تتكون بنشاط بواسطة الشخص المنظم. وعملية المعرفة cognition تكيفية وتسمح للفرد أن ينظّم عالم الخبرات، ليس أن يكتشف حقيقة موضوعيّة (von Glasersfeld، 1989).
وفى مقابل موقف von Glasersfeld للبنائية الراديكالية ظهرت البنائية الاجتماعيةّ لعالم النفس فايجوتسكى كأكثر الأشكال قبولا للفلسفة، حيث يرى Heylighen (1993) البنائية الاجتماعية بأنها الاتفاق الجماعي في الرأي مع اختلاف الأفراد كمحك للحكم على المعرفة 'كحقيقة' أو واقع. والتعليم عند فايجوتسكى عملية موصولة اجتماعياً حيث يتم بناؤها أو تنميتها بمعاونة أو دعم راشد أو قرين أكثر نضجا.ً ومعرفة ودور الراشد أو القرين هو هيكلة أنشطة التعلم التى تتجاوز مستوى الطفل ولكن تكون فى متناوله. والمستوى المدعوم يصبح بعد ذلك نقطة الانطلاق الجديدة التى تعد الطفل للتحرك للمستوى التالى. وأطلق فايجوتسكى مصطلح "منطقة النمو الوشيك (Zone of Proximal Development-ZPD) على المساحة التى تقع بين ما يمكن أن يقوم به الطفل بنفسه وما يمكنه أن يقوم به من خلال تعاونه مع شخص أكثر معرفة. هذه المنطقة الافتراضية تصبح المنطقة التى يحدث فيها النمو المعرفى ويتم التعلم ( وليم عبيد، 2002).
ويبدو أن علم المعرفة البنائية صعب التعريف، حيث يعتمد على الباحث الذي تقرأ له. فقد تحصل على تأويلات مختلفة إلى حد ما لهذا المفهوم. ومع ذلك، فإن العديد من الكتّاب، والتربويين والباحثين يظهرون توافقا حول كيف أن المعرفة البنائية تؤثر على الممارسات التربوية والتعلّم. وبالنسبة للكثيرين، تقدم البنائية وعودا بعلاج تفاقم نظام المدرسة وتعرض بديلا مقنعا، ومتماسكا وقويّا إلى النموذج القائم. هل تستطيع البنائية بفاعلية أن تترجم إلى نظريّة تعلّم وذلك من علم المعرفة، ومن نظريّة تعلّم إلى الممارسة؟ هذا السؤال ينبغي أن يوضع في الاعتبار. وسوف نناقش فيما يلي ما تعنيه البنائية بالنسبة للتعلّم .
نظرية التعلم البنائية Constructivism Learning Theory:
على الرغم من أنه لا يوجد تقريبا اتفاق على نظرية بنائية للتعلم، إلا أن النظرية تزعم بوجه عام بأنه يوجد كم هائل من الحقائق في ذهن العارف. ويعي الفرد الحقيقة أو على الأقل يفسرها في ضوء خبراته. وتهتم البنائية بكيفية بناء المعرفة من خلال خبراتنا، وأبنيتنا العقلية، ومعتقداتنا المستخدمة في تفسير الأشياء والأحداث؛ فيتم تكوين عالمنا الشخصي عن طريق الذهن، ومن ثم فإنه في إطار النظرية البنائية لا توجد حقيقة موضوعية واحدة، فهي ترى أن العقل أداة ضرورية في تفسير الأحداث والأشياء، وأن هذه التفسيرات تشمل أساس المعرفة الشخصية والفردية. فالذهن ينتقي المدخلات من العالم الخارجي حتى يتمكن من تقديم تفسير لها، كما أننا جميعنا نفكر في العالم الخارجي بطرق مختلفة نوعا ما، ومن واقع خبراتنا بهذا العالم, ومعتقداتنا من تلك الخبرات (Jonassen, 1991) .
ويذكرErnest (1995) أنه باستعراض سبعة نماذج للبنائية، يتضح أنها كلها صور متباينة للبنائية الراديكالية. والنتيجة المستخلصة هي عبارة عن الحاجة إلى التوافق بين التكوين الفردي والتفاعل الاجتماعي. هل تتكون المعرفة من موقف اجتماعي أم أنه ينظر إليها على أنها إنشاء فردي ؟. هذا الموقف يؤثر على الطريقة التي يتم بها تحول التعلم إلى مفاهيم. فمن منظور البنائية الراديكالية، كيف يمكن لنظريّتهم أن تشمل كلاً من النشاط الجماعيّ والخبرة الفرديّة لتضع في الاعتبار أهمية التفاعل الاجتماعي الصفي الذي يكون عادة جزءا من العمليّة التعليميّة الكاملة؟. تشكّل مثل هذه الأسئلة الأساس للتعقيدات الناشئة في عملية ترجمة تنوع وجهات النظر إلى مجموعة عامة من المبادئ التي يمكن أن تتحول إلى عمليات قابلة للاستخدام. وبسبب التباين في وجهات النظر الخاصة بنظرية بنائية التعلم يقترح Ernest أن نقطة البدء المناسبة لفهم المنظور البنائي في التعليم والتعلم هي أن نضع في الاعتبار ما هو ليس بنائياً.
يعبر عن البنائية عادة عن طريق مقارنتها بالنموذج السلوكي للتعلم. يهتم علم النفس السلوكي بدراسة التغييرات في السلوك الظاهر مقابل التغييرات في المواقف العقلية. ويفهم التعلّم على أنه عمليّة تغيير أو جعل السلوك الملاحظ شرطيا نتيجة للتعزيز الانتقائيّ لاستجابة الفرد للمثيرات التي تقع في البيئة. يرى العقل كوعاء فارغ ينبغي أن يملأ أو كمرآة تعكس الحقيقة. وتركّز السلوكيّة على جهود الطلاّب لجمّع المعرفة من العالم الطبيعي وعلى جهود المدرّسين لنقله. ولذلك تعتمد على عملية إرسال بواسطة المدرس الّذي يكون سلبيا إلى حد كبير، ويدور حوله التعلم كما يتحكم فيه. وفي بعض السياقات، يستعمل مصطلح السلوكيّة behaviorism كمرادف للموضوعية Objectivism بسبب اعتماده علم المعرفة الموضوعية.
ويصف Jonassen (1991) فرضيات المدخل الموضوعي في التعلم كما يلي:
يعتقد الموضوعيون في وجود معرفة حقيقية عن العالم. كمتعلّم، فإن الهدف هو الحصول على هذه المعرفة؛ وكمربي، فإن الهدف هو نقل هذه المعرفة. وأبعد من ذلك تفترض الموضوعيّة أنّ المتعلّم يحصل على نفس الفهم مما نقل إليه. ويتكون التعلّم لذلك من استيعاب تلك الحقيقة الموضوعيّة. ودور التربية هو مساعدة الطلاّب على تعلم أشياء عن العالم الحقيقيّ. وهدف المصمّمين أو المدرّسين هو تفسير الوقائع لهم. ويتم إخبار المتعلّمين عن العالم وينتظر منهم أن يكرّروا محتواه ومكوناته في تفكيرهم . وأنتج هذا النموذج الموضوعي بطريقة ما التعليم والتعلم المقولب stereotyped والّذي انتقد على نحو واسع وغالبا ما يستدعى بهدف الإصلاح التعليمي.
تصف Susan Hanley (1994) في مناقشتها للبنائية ّ، منظورها عن نموذج الموضوعية كما يلي :
تدار الصفوف عادة بواسطة " حديث المعلم " ويعتمد بشدة على الكتب المدرسية لبناء المقرر. هناك فكرة أنّ هناك عالم المعرفة الثابت وأنّ الطالب يجب عليه أن يعرف. تقسّم المعلومات إلى أجزاء وتبني في مفهوم شامل. المدرّسون عبارة عن خطوط أنابيب ويسعون إلى نقل أفكارهم ومعانيهم إلى الطالب السلبي . هناك مساحات ضيقة لأسئلة المبادرة وللتفكير المستقل أو التفاعل بين الطلاّب. هدف المتعلّم هو استرجاع الشرح المقبول من المدرّس.
بينما تؤكد السلوكيّة على السلوك الخارجيّ الملاحظ وتتجنّب الارتكاز على المعني، والتمثيل والتفكير، تأخذ البنائية على عاتقها المدخل المعرفي cognitive. هذا الاختلاف له استخدامات عميقةّ لجميع أوجه نظرية التعلم. الطريقة التي تستوعب وتكتسب بها المعرفة، أنواع المعرفة، المهارات والأنشطة، دور المتعلّم والمعلم، كيف توضع الأهداف، كلّ من هذه العوامل تتجلى على نحو مخالف من المنظور البنائي. ومن خلال البنائية نفسها يوضح المؤلّفون والباحثون والمنظرون وجهات نظر على نحو مخالف بواسطة عناصر مختلفة.
ومع ذلك هناك اتفاق على عدد كبير من المداخل. على سبيل المثال، على دور المدرّس والمتعلّم. في تصوّر( 1995b) von Glasersfeld عن مفهوم البنائية الأصولية للتعلم، يلعب المدرّسون دور "الداية " في ولادة الفهم" مقابل "آلية نقل المعرفة". ليس دورهم توزيع المعرفة ولكن تزويد الطلاّب بالفرص والحوافز لبناء المعرفة . ويعرّف Mayer (1996)المدرّسين على أنهم "مرشدون"، والمتعلّمين على أنهم "صنّاع المعني" sense makers . وطبقا لوجهة نظر Gergen (1995) يعتبر المعلمون منسقون،وميسرون facilitators، ومستشارون، ومدربون. ويمكن للمعلم داخل قاعة الدرس البنائية أن يلعب دورا مفيدا في تحويل النظرية إلى ممارسات:
يتكون دور السلطة من عنصرين مهمّين. الأوّل تقديم أفكار جديدة أو أدوات ثقافيّة عند الضرورة وأن يزوّد الدعم والإرشاد للطلاّب لاكتشاف معني ذلك بأنفسهم. العنصر الثاني هو الإصغاء وتشخيّص الطرق التي تفسّر بها الأنشطة التعليميّة. والتدريس من هذا المنظور هو أيضا عمليّة تعلّم للمدرّس (Driver et al, (1994 .
بينما لكل من وجهات النظر الأصولية والاجتماعيّة للبنائية التأكيدات الخاصّة بها يشتقّ Ernest (1995) مجموعة الدعامات النظريّة العامة لكليهما:
المعرفة هي ككل ممشكلة ( في صورة مشكلات) Problematized، وليست مجرد المعرفة الموضوعية للمتعلم، بما في ذلك المعرفة الرياضيّة وعلم المنطق.
الحاجة إلي مداخل للتدريس لزيادة الوعي والتجاوب حيث إنه لا يوجد طريق ملكي للوصول للحقيقة أو قريبا منها.
تركيز الاهتمام ليس فقط على العمليات المعرفية للمتعلم، ولكن العمليات المعرفية والمعتقدات والتصورات المعرفية الخاصة بالمعلم.
تركيز الاهتمام على المعلم وتربية المعلم، ليس فقط معرفة المعلم للموضوعات ومهارات التشخيص، ولكن على كل ما يخص المعلم من معتقدات وتصوّرات، ونظريّات شخصيّة عن الموضوعات والتدريس والتعلم.
وبالرّغم من قدرتنا على التعرف تجريبيا على معرفة الآخرين بواسطة تفسير لغتهم وأعمالهم من خلال تكوينات مفاهيمنا الخاصة، إلا أن الآخرين لهم حقائقهم المستقلة عنا. وحقيقة الأمر إنّها حقائق آخرين مع حقائقنا الخاصّة التي نجاهد من أجل فهمها، ولكننا لا نستطيع أن نأخذ أيّ من هذه الحقائق كشيء ثابت. كما أن الوعي بالبناء الاجتماعيّ للمعرفة يقترح تأكيدات تربوية على المناقشة، التعاون، المفاوضة، والمعاني المشتركة .
ويؤكد Von Glasersfeld (1995) على أن التعلم من المنظور البنائي ليس ظاهرة مثير – استجابة . إن التعلم يحتاج إلى التنظيم الذاتي وبناء المفاهيم من خلال التفكير والتجريد . ويضيف Fosnot ( 1996) " بدلا من السلوك أو المهارات كهدف للتعليم، فإن نمو المفهوم والفهم العميق هو الجوهر ". وبالنسبة للمربين فإن التحدي هو القدرة على بناء نموذج نظري لعوالم المفاهيم الخاصة بالطلاب حيث هذه العوالم يمكن أن تكون مختلفة للغاية عما قصده المربي (von Glasersfeld، 1996).
وطبقا لهذا التصور، يؤكد التعلّم على العمليات وليس على النواتج. كيف يصل الفرد إلى إجابة خاصة، وليس استرجاعاً أي " حلاً حقيقياً موضوعياً " . التعلّم هو عمليّة بناء تمثيلات ذات معنى، وإحداث معني لعالم خبرات الفرد. في هذه العمليّة، ينظر إلى أخطاء الطلاّب برؤية إيجابية وكوسائل للتمكن من البصيرة في كيفية تنظيم عالم خبراتهم. هذا المنظور ثابت مع اتجاه البنائية لضمان مضاعفة الحقائق والتمثيلات والمنظورات.
ومفهوم التعددية Multiplisity هو مفهوم بالغ الأهمية للبنائية. ويعرف، ليس فقط كمنظور معرفي ونظري ولكن كذلك كطرق متعددة للتعبير عن النظرية. ولهذا المفهوم تطبيقات مهمة للتعليم والتعلّم فينظر إلى الرياضيّات والعلوم كأنظمة مع النماذج التي تصف كيف يكون العالم غير ما هو عليه. وتشتقّ هذه النماذج صدقها ليس من دقّتها في وصف العالم، ولكن من دقّة أي تنبّؤات ربّما قد اعتمدت عليها (Hanley، 1994).
وطور الباحثون والمنظرون أنواعاً متباينة من البنائية أو طوّروا النظريّة في اتجاهات مختلفة. ومع ذلك فهناك العديد من الموضوعات العامة في أدبيات البنائية التي تسمح باشتقاق المبادئ، والنماذج التعليميّة والخواصّ العامّة.